الصفقة البحرية الإسرائيلية اللبنانية
الوعد الكاذب بجنة الغاز
لم يكن اتفاق 13 أكتوبر بين لبنان وإسرائيل لترسيم الحدود البحرية بين البلدين مهمة سهلة التحقيق. إذ أن أي شخص تابع العملية يتذكر جهود المبعوث الأمريكي “فريدريك هوف” والتي بدأت في عام 2011 وما تلاها من “خط هوف” والعديد من الوقائع الأخرى قبل الوساطة الناجحة لمبعوث الطاقة الأمريكي “اموس هوكشتين” في الأيام الأخيرة.
كانت العقبات عديدة، إذ لا يعترف لبنان رسمياً بوجود إسرائيل، في حين احتلت إسرائيل جنوب لبنان عام 1978 ومرة أخرى من عام 1982 حتى عام 2000، وخاضت إسرائيل حروباً دامية في لبنان بين عامي 1993 و2006، وما يزال التوتر يتصاعد في كثير من الأحيان بين “حزب الله” والقوات المسلحة الإسرائيلية.
في مثل هذا السياق، يعد التوصل إلى اتفاق بين الجانبين تحديًا حقيقيًا، ليس فقط بسبب الأعمال العدائية المفتوحة، ولكن أيضًا لأن مفاوضي كل طرف يجب أن يقلقوا بشأن السياسة الداخلية. وفي حالة إسرائيل، سرعان ما تحولت القضية إلى جدال انتخابي حيث انتهز رئيس الوزراء السابق بنيامين نتنياهو الفرصة لاتهام الحكومة التي خلفته بالاستسلام لابتزاز حزب الله.
على النقيض من ذلك وعلى الجانب اللبناني، أظهرت النخبة السياسية – الدائمة الانقسام عادةً – قدرًا كبيرًا من الوحدة إزاء الصفقة، باستثناء عدد قليل من الخبراء الذين أعربوا عن مخاوفهم من أن الصفقة قد تمنح لبنان أقل بكثير من الحدود التي كانت على طاولة المفاوضات بعد الاجتياح الإسرائيلي عام 1982. تأتي هذه الوحدة السياسية اللبنانية الجديدة من عدة دوافع، أولها هو أن حزب الله نفسه – ألد أعداء إسرائيل – أصبح داعمًا للصفقة، وبالتالي لم يترك مجالًا للمزايدة.
الدافع الثاني هو أن النخب اللبنانية قد تركت البلاد في حالة إفلاس كامل منذ الأزمة المصرفية والنقدية التي اندلعت في عام 2019، وهم متأكدون من عدم حدوث إصلاحات أو إعادة هيكلة، وعدم إمكانية عقد صفقة مع صندوق النقد الدولي، وعدم تنفيذ أي خطة لحل مشكلة البنوك. إن الغرض من ترك بلدهم في حالة تداعٍ هو – ببساطة – الحفاظ على قبضتهم على السلطة، وتحميل اللبنانيين خسائر النظام المصرفي من خلال انخفاض قيمة العملة وخفض قيمة الودائع، وتجنب أي خسارة يتحملها أصحاب الثقل السياسي والمالي. وبالنظر إلى هذا الواقع المؤسف، فإن لتحالف الفئات الحاكمة مصلحة خاصة في بيع وهم آخر للشعب اللبناني: هو أن الغاز سيحل جميع مشاكلهم. بعبارة أخرى: ليست هناك حاجة لتغيير النخب، ولا تحتاج هذه النخب أن تنفذ العديد من الإصلاحات الضرورية، فهم بحاجة فقط إلى الجلوس وانتظار الغاز، على حد زعمهم.
هذا الوضع في انتظار الإنقاذ الخارجي ليس بجديد على لبنان. فقد رفضت النخب نفسها إدخال أي إصلاح في الماضي، وراهنت باستمرار على حدث خارجي واحد لتقديم الحل لكل شيء: نهاية الحرب الأهلية، وانسحاب جيوش الاحتلال الأجنبية، ومؤتمر المانحين، و صفقة صندوق النقد الدولي (التي خربتها الطبقة السياسية اللبنانية نفسها)، أو أي بند آخر يعفيهم من واجباتهم في التصرف بمسؤولية.
بغض النظر عن الدوافع، من الواضح أن لبنان يحصل على بعض الفوائد من الصفقة البحرية. فالنقطة الإيجابية الأولى في صفقة الحدود البحرية هي الوعد بخفض التصعيد بين حزب الله وإسرائيل، حيث كان من الصعب تخيل انهيار المحادثات من دون مواجهة ساخنة بين الطرفين. جانب إيجابي آخر هو أن عدم وجود صفقة – حتى لو كانت غير كاملة – كان سيخلق تكلفة فرصة ضائعة ضخمة ومتصاعدة للتنقيب عن الغاز اللبناني، حيث سيخسر اللبنانيون الأرباح التي يمكن جنيها في أسواق الغاز التي ارتفعت اسعارها منذ أن عطلت حرب أوكرانيا إمدادات الغاز الطبيعي في العالم.
ومع ذلك، هناك عدم تناسق كبير بين الفوائد التي سيتمتع بها الجانبان. لقد وجد الإسرائيليون -واستخرجوا- كميات كبيرة من الغاز، في حقل ليفياثان (623 مليار متر مكعب)، وتمار (283 مليارًا)، وحقول أصغر، وهم يعرفون ما يمكن توقعه من حقل كاريش، الذي تم ضمانه الآن عبر الصفقة الأخيرة. تعمل الشركات الدولية بالفعل في الحقول الإسرائيلية، وتم وضع حوكمة قطاع البترول لديها، ولديها صفقات مع جيران مثل مصر وقبرص والأردن، سواء لمبيعات الغاز أو تحسين نقل الغاز.
لكن في لبنان، تتمحور تجارة الغاز في الغالب حول المضاربة، بغض النظر عن تجربة واحدة أجراها الائتلاف التجاري بقيادة شركة توتال في عام 2020، والتي لم تتمخض عن أية نتيجة ولم تصل لأي مخزون. هناك تقديرات كثيرة متناقضة لإجمالي احتياطيات لبنان، تتراوح بين 340 و708 مليار متر مكعب، فيما تصل بعض التقديرات إلى 1220 مليار متر مكعب. لكن التحدي الحقيقي يكمن بشكل أكبر في عدم قدرة هيكل السلطة اللبنانية على القيام بالأعمال التمهيدية في المنبع والمصب، بما في ذلك وضع حوكمة مناسبة للإيرادات يمكن أن تكون خارج نطاق نظام الفساد المتجذر في بيروت. وتوفير بنية تحتية فعالة بتكلفة معقولة، وتعزيز تأثير أي تطور إيجابي على سوق العمل، وإقامة تحالفات وإنهاء الصفقات المتعلقة بالمبيعات والنقل، وزيادة نصيب لبنان من العمليات، والنجاح في إدارة الإيرادات المحتملة مع تجنب المزيد من التفاوتات الاقتصادية المتزايدة بين اللبنانيين، واستخدام الأصول الهيدروكربونية بحكمة لصالح اللبنانيين وأجيالهم القادمة في نفس الوقت. هذه كلها أمور تبدو بعيدة المنال في السياق الحالي في لبنان.
في واقع الأمر، فإن بقاء الصفقة قد يكون مهددًا من قبل السياسة الداخلية الإسرائيلية، وقد يؤدي إلى خيبة أمل كاملة من الجانب اللبناني، حيث تغذي النخب توقعات غير واقعية للغاية من حيث الإيرادات، مثل الادعاءات الخيالية بأن تريليونات الدولارات قادمة. وحتى في أفضل السيناريوهات الموضحة في دراسة أصدرتها مؤسسة المواطن اللبناني قبل بضعة أشهر، يمكن للبنان أن يتوقع ذروة سنوية لاستخراج 15 مليار متر مكعب واستغلال قد يستمر 50 عامًا، واكتفاء ذاتي لنحو 35 سنة. سيكون هذا مهمًا بالطبع، لكنه ليس بأية حال وصفة لتجنب الحاجة إلى الإصلاحات التي طال انتظارها. أولئك الذين وُعدوا بإعادة الودائع المصرفية إلى أصحابها بفضل استخراج الغاز الذي سيتبع الصفقة، وأولئك الذين يعتقدون أن بإمكانهم الحصول على بلد أفضل دون الخوض في متاعب الإصلاحات، قد تتلاشى أوهامهم تلك في وقت غير بعيد عن الآن، وحينها لن يكونوا قادرين على إلقاء اللوم على صفقة الحدود البحرية، لكنهم سيدركون أن أحد الآثار الضارة للاتفاقية كان السماح للنخب التي لا تطاق بفرض نفسها لبضعة عقود أخرى من خلال الوعود الخلبية بـ “جنة الغاز”.
آلان بيفاني هو المدير العام السابق لوزارة المالية اللبنانية.