بعد أكثر من عام ونصف على توليها زمام الحكم، تتجنب إدارة بايدن بجدية وجود سياسة واضحة تجاه سوريا. فلقد عاد المحاربون القدامى في إدارة أوباما السابقة إلى مناصبهم في كانون الثاني يناير 2021، أولئك المحاربين الذين تفادوا الخوض في مجالات سياسية كثيرة في سوريا ضمن الفترة بين 2011 إلى 2016. وعلى افتراض أنه إذا أشاحت الولايات المتحدة بنظرها عن الصراع السوري، فلن يكون الصراع السوري قادرًا بالمثل على رؤيتها! وللأسف، فإن الواقع لا يتعامل مع قوة عظمى بهذه الطريقة، فالتظاهر بعدم رؤية المخاطر لا يجعلها تختفي.
ما تزال المخاطر نفسها التي أجبرت إدارتيّ أوباما وترامب على تبني نهج عملي في التعامل مع سوريا قائمة، تلك المخاطر المتمثلة في: الإرهاب، الإبادة الجماعية، اللاجئين، الأسلحة الكيماوية، معتقلي تنظيم الدولة الإسلامية في السجون المتهالكة في شمال شرق سوريا، عدوان النظام الإيراني، منافسة القوى العظمى التي تشارك فيها روسيا، الصراع بين تركيا وحزب العمال الكردستاني. وعليه، فإن أياً من هذه المخاطر يمكن أن يتصاعد إلى أزمة إقليمية أو دولية داخل سوريا في أي وقت محتمل.
وفي مواجهة هذه المشكلة الواسعة النطاق، اختارت إدارة بايدن تضييق نطاق تركيزها، مع الاحتفاظ بالأهداف المعنوية لسابقتها، لكن دون تطبيق أي خطط أو وسائل لتحقيق أي منها، باستثناء مكافحة الإرهاب والمساعدات الإنسانية. وهكذا فإن الإجراءات التي تتخذها الولايات المتحدة غير متصلة مع بعضها البعض، إذ كانت السفيرة الأمريكية لدى الأمم المتحدة “ليندا توماس جرينفيلد” تنشط في محاولة حثيثة لاستمرار تدفق مساعدات الأمم المتحدة إلى سوريا، وكان لدى قائد القيادة المركزية الأمريكية الجنرال “إريك كوريلا” ميلٌ إلى ردع الإيرانيين عن مهاجمة قواته داخل سوريا، لكن هاتين المبادرتين منفصلتان تماماً بدون سياسة شاملة إزاء سوريا.
ينطوي نهج عدم التدخل الذي تتبعه إدارة بايدن على فرص ذات تكاليف ومخاطر باهظة في مجالات السياسة الأخرى، وبغض النظر عن جهود كوريلا الأخيرة لوقف الهجمات الإيرانية ضد القواعد الأمريكية، تعد سوريا منفصلة عن السياسة الأوسع للإدارة الأمريكية تجاه إيران. فالضغط الذي يمكن أن يؤثر على النظام المتمرِّد في طهران لا يُمارس على الدكتاتور السوري الوحشي “بشار الأسد”، كما أن سوريا منفصلة بشكل غريب عن السياسة الأمريكية الأوسع تجاه روسيا وأوكرانيا كذلك، لأنه إذا تم التعامل مع الأسد بقوة، سيشعر بوتين أيضًا بالضغط مقابل ذلك.
لا يُقال أو يُفعل الكثير في واشنطن بشأن التهديدات الأخرى التي تنطلق من سوريا والتي تعرِّض حلفاء الولايات المتحدة المقربين للخطر. فحملة النظام الإيراني المستمرة لتحويل سوريا إلى موقع تمركز للحرس الثوري الإيراني تجبر سلاح الجو الإسرائيلي على ضرب أهداف إيرانية داخل سوريا عدة مرات في الأسبوع، وهذه الضربات كانت ستؤدي إلى أزمة دولية لو حدثت قبل عام 2011، لكنها اليوم بالكاد تتصدّر عناوين الأخبار. كذلك كان ينبغي أن يكون التقارب الأخير بين إسرائيل وتركيا – بعد عقد من انهيار العلاقات بينهما – فرصة للولايات المتحدة لمساعدة اثنين من حلفائها في تنسيق جهودهما بشأن الأزمة المشتركة ضد الأسد وإيران، لكن لا يوجد مؤشر على قيام إدارة بايدن بذلك.
أما على الحدود الجنوبية لسوريا، يخوض الأردن بمفرده حرباً حدودية عنيفة مع نظام الأسد ومسلحي “حزب الله” الذين يقومون بتهريب المخدرات إلى الأردن والخليج على نطاق واسع. وعلى الحدود الشمالية، خمدت الدبلوماسية المكوكية الأمريكية التي سعت سابقاً قبل عام 2021 لإنهاء الصراع الخطير بين تركيا و”وحدات حماية الشعب” أو – على الأقل – التخفيف من حدته. وقد نتج عن تواصل تركيا الأخير مع الأسد أن وصلت أنقرة إلى خيبة أمل من إمكانية حسم هذا الصراع على الحدود، مايشكل مثالاً واضحاً على ما يمكن أن يحدث عندما تترك الولايات المتحدة فراغًا في القيادة. وتركيا ليست الحالة الوحيدة، حيث يعبر حلفاء الولايات المتحدة الآخرون في أوروبا والعالم العربي عن إحباطات مماثلة بسبب تقاعس الولايات المتحدة، ويتلمسون حلولهم الخاصة التي يمكن أن تتوافق مع المصالح الأمريكية أو تتنافر معها.
بالعودة إلى واشنطن، نفد صبر الكونجرس أيضًا من سلبية إدارة بايدن تجاه سوريا، وخاصة في فشل الإدارة في تطبيق قانون “قيصر”، حيث حذر أعضاء بارزون في الكونجرس الإدارة مرارًا وتكرارًا من تشجيع مشروع “خط أنابيب الغاز العربي” الذي يمر عبر الأراضي السورية ويقدم الغاز بل ورسوم العبور إلى الأسد نفسه، وعليه فإنه من المحتمل أن يكون هناك تدخل للكونجرس في سياسة سوريا بعد انتخابات التجديد النصفي القادمة في تشرين الثاني نوفمبر. وقد أشارت اللجان الرئيسية بالفعل إلى أنها مستعدة لتمرير قانون قيصر المُحدَّث “قيصر 2.0” الذي سيغلق ثغرات في العقوبات، ويحبط صفقة خط الأنابيب، ويجعل بعض العقوبات ضد الأسد وحلفائه إلزامية. ومن المحتمل أيضًا أن تكون هناك مشاريع قوانين تستهدف تهريب الأسد الهائل لمخدرات الكبتاغون، وتمنع الولايات المتحدة من الاعتراف بحكومة الأسد أو التعامل معها.
في ظل هذه المقدمة، سيكون من المستحسن أن تتخذ إدارة بايدن عددًا قليلاً من الخطوات السياسية -التي لن يكون أي منها مكلفًا – لإعادة الولايات المتحدة إلى دورها القيادي وحمايتها من المخاطر التي تشكلها سوريا على المصالح الأمريكية والدولية.
أولاً: إعادة الضغط الاقتصادي على دمشق: إن القيام بذلك من شأنه أن يمنح الولايات المتحدة أفضل فرصة لها لإجبار الأسد على إنهاء حربه ضد الشعب السوري الذي يعد المحرك الأساسي لكل ما يحدث بشكل خاطئ في سوريا. يجب على الولايات المتحدة تنفيذ خطة شاملة لإغلاق التدفقات الرئيسية لإيرادات الأسد، المتمثلة في تهريب الكبتاغون، والسرقة من مساعدات الأمم المتحدة، وإجبار المغتربين السوريين على دفع رسوم باهظة لتجديد جوازات السفر وتسجيل الوثائق الحيوية. وفيما يتعلق بمساعدات الأمم المتحدة يجب على إدارة بايدن والكونغرس العمل معًا لمنع الأموال الأمريكية من الذهاب إلى برنامج الغذاء العالمي ووكالات الأمم المتحدة الأخرى في دمشق، إلى أن يقوموا بالجهد المطلوب بشفافية مع المتعاقدين والمقاولين من الداخل السوري، إذ تتوفر أدلة دامغة على أن عقود الأمم المتحدة تذهب بشكل أساسي إلى شركات وهمية مرتبطة بنظام الأسد في الوقت الحالي.
لا يوجد سبب وجيه لعدم فرض الإدارة قانون قيصر كما يرغب الكونغرس بوضوح. فبعد أن تولت إدارة بايدن السلطة تم تطبيق القانون لفترة وجيزة، مما منح الأسد وحاشيته – لسبب غير مفهوم – فترة راحة من الضغوط الاقتصادية الأمريكية. وهنا يجب على الإدارة العمل ضد تحدي العقوبات خارج سوريا، وأبرز مثال على ذلك هو شركة “أجنحة الشام” للطيران التابعة للأسد، والتي تطير إلى الإمارات والأردن والكويت وأرمينيا ودول أخرى على الرغم من العقوبات الأمريكية. تدرك الإمارات والأردن والكويت أنهم ينتهكون قانون قيصر من خلال السماح لأجنحة الشام بالحصول على خدمات أرضية في مطاراتهم، لكنهم يعتقدون أن الولايات المتحدة ليست جادة في فرض العقوبات عليهم. وعليه، ربما يتطلب الأمر رسالة تحذير واحدة من وزارة الخزانة الأمريكية لوضع حد لذلك التفكير الخاطئ.
كما يجب أن تكون شهادة منظمة الطيران المدني الدولي (ICAO) لمطار دمشق وحلب مطروحة على الطاولة للمناقشة. فإذا كان الحرس الثوري الإيراني و”حزب الله” يستخدمان مطارات الأسد لشن الحرب، فلماذا يجب أن تكون هذه المطارات معتمدة لاستخدام شركات الطيران التجارية؟ سيكون من السهل نسبيًا تسليط الضوء على إساءة استخدام المطارات السورية حتى لا تغطي شركات التأمين شركات الطيران التي تطير إلى هناك.
فيما يتعلق برسوم جوازات السفر الباهظة التي يفرضها الأسد، ستكون خطوة إبداعية وبناءة للولايات المتحدة للدعوة إلى وكالة جديدة للأمم المتحدة لتوفير وثائق السفر وتسجيل السجلات الحيوية للتحايل على نظام الأسد إلى أن تكون هناك حكومة مختلفة في دمشق. لقد حان الوقت أيضًا لإنهاء السياسة الصارمة لدى الولايات المتحدة في إصدار التأشيرات للسوريين، والتي تنبع من مبدأ المعاملة بالمثل، فنظرًا إلى أن الأسد يحظر الأمريكيين من الإقامة ذات الدخول الفردي لمدة 90 يومًا فقط في سوريا، فإن سياسة التعامل بالمثل الأميركية تحذو حذوها وتحد من إقامة جميع حاملي جوازات السفر السورية لتكون مرة واحدة لمدة لا تزيد عن 90 يومًا في الولايات المتحدة. وبما أن معظم أفراد المعارضة يحملون جوازات سفر سورية فقط، فإن الأسد يحدد بذلك شروط إقامة المعارضة السورية في الولايات المتحدة بفعالية! خلال فترة عملي كمبعوث خاص للولايات المتحدة لسوريا، واجهتُ صعوبات مستمرة في محاولة استضافة قادة المعارضة السورية ومجموعات المجتمع المدني للتشاور في واشنطن. ففي أغلب الأوقات، تمنع دائرة خدمات المواطنة والهجرة الأمريكية (USCIS) زواري من الحصول على تأشيرة، أو تقيِّدها بوصفها عديمة الجدوى، على الرغم من مصلحة الولايات المتحدة الواضحة في التنسيق عن كثب مع المعارضة والمجتمع المدني قدر الإمكان. وعليه، لابد أن ينتهي هذا النظام السلطوي.
ثانيًا: ربط سوريا بالسياسات الأمريكية الأوسع تجاه روسيا وإيران: كان قانون قيصر يهدف إلى تمكين العقوبات ضد التدخل الروسي والإيراني في سوريا، لكن الولايات المتحدة لم تستخدم هذه السلطة. يجب على الولايات المتحدة أن تضع عمليات الردع التي يقوم بها الجنرال كوريلا ضد الحرس الثوري الإيراني في سياسة أوسع للضغط على الإيرانيين بهدف سحب قواتهم ووكلائهم المسلحين من الأراضي السورية. إذ كيف يمكن منح طهران تخفيفًا كبيرًا للعقوبات الأمريكية ضمن مفاوضات الاتفاق النووي، في نفس الوقت الذي يستمر فيه الحرس الثوري الإيراني بقتل القوات الأمريكية في سوريا والعراق؟
فيما يتعلق بروسيا، يجب على الإدارة أن تفرض عقوبات على كل شركة ووحدة عسكرية روسية تعمل الآن أو كانت نشطة في سوريا، ويجب على الولايات المتحدة أيضًا أن تجعل من المستحيل على روسيا الحصول على تنازلات من خلال التهديد المستمر باستخدام حق النقض ضد مساعدات الأمم المتحدة عبر الحدود إلى سوريا. لقد حان الوقت منذ أمد طويل للولايات المتحدة وحلفاء آخرين لتطوير بديل قابل للتطبيق إزاء مساعدة الأمم المتحدة الهادفة لإطعام أكثر من أربعة ملايين شخص في شمال غرب سوريا.
ثالثًا: يجب على الولايات المتحدة أن تنضم فورًا إلى الجهود الناشئة من قبل المحاكم الأوروبية لمحاسبة نظام الأسد على جرائم الحرب والفظائع الأخرى، ويجب أن تدعم الولايات المتحدة تشكيل محكمة دولية بشأن سوريا في “لاهاي” كما فعلت الإدارات السابقة مع المحكمة الجنائية الدولية الخاصة بيوغوسلافيا، والمحكمة الخاصة بلبنان التي حققت في اغتيال “رفيق الحريري”، ويجب على إدارة بايدن إصدار تعليمات لوزارة العدل ومكتب التحقيقات الفيدرالي لإعطاء الأولوية لقضايا المواطنين الأمريكيين الذين اختفوا في سجون الأسد.
وفيما يتعلق بالشأن السوري، لا يتعين على الدبلوماسية الأمريكية تكرار ما حدث مع “سيرجي لافروف” الذي خاص نقاشات طويلة غير مجدية مع الوزراء “كلينتون” و”كيري” و”تيليرسون”. الدبلوماسية الأمريكية بشأن سوريا يجب أن تكون أكثر جهداً وفاعلية مما هي عليه اليوم، ولا تحتاج إدارة بايدن إلى القيام بأشياء باهظة التكلفة، لكن يمكنهم – بل وينبغي عليهم – القيام بأشياء منخفضة التكلفة أو بدون تكلفة على الاطلاق. بالمقابل، سوريا لن تقف مكتوفة الأيدي مثلما تبدو القوة العظمى الأمريكية، فالشعب السوري مهيأ للانفجار مرة أخرى، لأن الحياة في جميع أنحاء سوريا تقريبًا أصبحت غير مستدامة. وعندما يحين الوقت، يمكن أن يتخذ الانفجار أشكالاً مختلفة ومتعددة. فهل الولايات المتحدة وأوروبا مستعدتان للمخاطر أو الاحتمالات التي قد تظهر بعد ذلك؟ من الأفضل الاستيقاظ من سبات السياسة الآن بدلاً من الانتظار والارتباك لاحقًا.
جويل ريبورن هو مدير المركز الأمريكي لدراسات بلاد الشام الذي يركز على الشؤون السياسية والأمنية في سوريا والمنطقة المحيطة. وهو أيضًا عضو باحث في مؤسسة أمريكا الجديدة وعضو ضيف في معهد هوفر. وهو دبلوماسي أمريكي سابق وضابط متقاعد بالجيش الأمريكي.