كسوري، لم أستطع إخفاء غضبي وخيبة أملي على الرغم من تعاطفي الكبير مع الشعب الأوكراني وحماسي للموقف التاريخي الذي اتخذه الرئيس جو بايدن ضد العدوان الروسي في أوكرانيا. فأين كنتم عندما وقعت تلك الجرائم البشعة في سوريا؟
يمكننا قبول النقطة البراغماتية القائلة بأن المبادئ الأخلاقية في السياسة الخارجية لها القوة فقط عندما تتوافق مع المصالح الاستراتيجية للأمة. لكن حتى في هذا الصدد، فإن السياسة الأمريكية تجاه سوريا محيرة، حيث لا يبدو أنها تتماشى مع المصالح الاستراتيجية لأمريكا.
لا تكمن المشكلة فقط في أن الدبلوماسية الأمريكية قد قللت من شأن سبع سنوات من جرائم الحرب الروسية في سوريا. المشكلة هي أن الولايات المتحدة ساهمت في المشكلة من خلال متابعة التعاون مع روسيا طوال تلك الفترة. لم تتوقف واشنطن أبدًا عن الزعم بأن موسكو جزء لا غنى عنه من الحل الدبلوماسي للأزمة، وذلك بالرغم من مشاركة القوات الروسية في جرائم حرب واسعة النطاق على الأرض. بهذه الطريقة، تنازلت الولايات المتحدة عن إدارة الأمر الواقع للأزمة السورية لروسيا، وبدلاً من معاقبة موسكو على جرائم الحرب، سمحت واشنطن لجرائم الحرب الروسية بأن تصبح ميزة استراتيجية لكل من روسيا والنظام السوري.
لحسن الحظ، تتبع الولايات المتحدة تجاه أوكرانيا نهجًا معاكسًا، وذلك من خلال وصف جرائم الحرب الروسية بما هي عليه وتنظيم الازدراء الدولي لجعل موسكو تدفع ثمناً باهظاً. لكن لسبب ما – إما بسبب الجمود أو الازدراء البيروقراطي – ما تزال الولايات المتحدة اليوم تنتهج سياساتها السابقة المتمثلة في الإهمال والاستخفاف بالأفعال الروسية في سوريا، وذلك على الرغم من تغيير مسارها إزاء تصرفات الروس في أوكرانيا، وعلى الرغم أيضاً من تعبير بعض المسؤولين الأمريكيين عن أسفهم للسماح للروس بالإفلات من جرائم القتل في سوريا.
بالنسبة لصانع القرار، سيكون هناك دائمًا ألف مبرر لعدم القيام بأي شيء تجاه سوريا. لكن الاعتقاد بأن العمل كالمعتاد مع روسيا في سوريا يخدم مصالح أمريكا اليوم قد يشكل في النهاية ضربة كبيرة لمصداقية الولايات المتحدة وموثوقيتها، مثل الانسحاب الأمريكي من أفغانستان. إن السماح لروسيا بالاستمرار في حرية التصرف في سوريا لن يؤدي إلا إلى زيادة التدخل وتأسيس المصالح الروسية والصينية في المنطقة. كما أن استمرار الافتقار إلى استراتيجية دبلوماسية إيجابية وشاملة للأزمة السورية دليل آخر على تدهور الموقف الأمريكي في الشرق الأوسط.
وقد أشار دبلوماسيون غربيون إلى أن بوتين فوجئ برد فعل الغرب على عدوانه على أوكرانيا. واستناداً إلى السلبية الغربية خلال مغامراته الناجحة في سوريا والشيشان، فقد افترض بشكل معقول أن الغرب سيكون سلبياً مرة أخرى عندما غزا أوكرانيا. ولو أن المجتمع الدولي، بقيادة الولايات المتحدة، واجه بشكل فعال مذابح بوتين للسوريين وتدمير البنية التحتية والتراث الثقافي السوري، لكان بوتين قد تردد بالتأكيد قبل شن هجومه على أوكرانيا.
منذ عام 2015 فصاعدًا، بينما كانت قوات بوتين جنبًا إلى جنب مع النظامين السوري والإيراني تشن هجماتها المدمرة ضد المدنيين والمدن السورية، اتصل قادة المعارضة السورية والأمريكيون السوريون مرارًا وتكرارًا بالمسؤولين الأمريكيين مطالبين بدور أمريكي أكثر نشاطًا في وقف المذبحة الروسية. لكن – ولسوء الحظ – كان الرد الثابت من هؤلاء المسؤولين الأمريكيين هو: “اذهبوا إلى الروس، اذهبوا إلى الروس، اذهبوا إلى الروس”. مرارًا وتكرارًا، كانت هذه هي النصيحة الفارغة التي أعطتها واشنطن للسوريين، بمن فيهم أنا.
كان الأساس المنطقي لهذا الموقف الأمريكي السلبي هو أن الولايات المتحدة لا يمكنها المخاطرة بالدخول في مواجهة مع روسيا. لكن الحرب الأوكرانية أظهرت أن الولايات المتحدة يمكنها بالفعل الوفاء بالتزاماتها وقيمها الأساسية، وحتى تقديم دعم حاسم للجانب الأوكراني، مع تجنب مواجهة مباشرة مع روسيا.
لا يوجد سبب لعدم فعل الشيء نفسه في سوريا. فقد كان من الممكن أن تكون السياسة الأمريكية النشطة والمسؤولة تجاه الانتهاكات الروسية في سوريا أقل تكلفة وأكثر فاعلية ليس في التخفيف المأساة السورية وحسب، بل والمأساة الأوكرانية لاحقاً. إن القصص المروعة لأشخاص فروا من ماريوبول، واختطاف الأطفال، والمجاعة، والحرمان من الكهرباء والمياه، كلها تعكس تجربة حلب والعديد من المدن السورية الأخرى. مع قلق المراقبين من أن الجيش الروسي قد يطلق العنان لأسلحة الدمار الشامل في أوكرانيا، يجب أن يتذكروا أنه عندما وفرت القوات الجوية الروسية الغطاء من 2012 إلى 2019 للنظام السوري لشن 334 هجوماً بالأسلحة الكيماوية ضد السوريين، لم يحمِّل الغربُ روسيا تكلفة ذلك، بل فوَّض الإدارة الدبلوماسية للأزمة إلى موسكو.
لم تسفر المناقشات الأخيرة مع المسؤولين الأمريكيين عن أي مؤشر على أن الإدارة الأمريكية تخطط للانتقال في سوريا إلى نوع النهج الذي تتبعه بالكامل في أوكرانيا. بل إن الإدارة الأمريكية مصممة على بذل أقل جهد ممكن تجاه الأزمة السورية (سياسة شكلية تقريبًا). وتختار الولايات المتحدة حالياً التركيز على القضايا الهامشية في سوريا، مما يسمح للديبلوماسية الأمريكية بأن تشتت انتباهها عن الأسباب الأساسية للأزمة السورية.
أحدث مثال على ذلك هو النقاش غير الجاد في الأمم المتحدة حول مسألة المساعدة الإنسانية لسوريا. لسنوات، سمحت الولايات المتحدة لروسيا بتحويل مجلس الأمن التابع للأمم المتحدة إلى قاعة للمساومة المضجرة على حساب ملايين الأشخاص في الأراضي السورية المحررة، وهم بأمس الحاجة إلى المساعدة. وبينما قام الروس بتخويف مجلس الأمن لتوجيه المزيد والمزيد من مساعدات الأمم المتحدة من خلال سيطرة النظام السوري في دمشق، استمرت قوات النظام في استخدام أساليب الحصار والتجويع والتهجير القسري لكسر إرادة السكان المدنيين. إنه لمن الخطأ الشديد أن يسمح مجلس الأمن لمثل هذا النظام بأن يكون له رأي في المساعدات الإنسانية والمعابر الحدودية. والأسوأ من ذلك أن النظام السوري يستفيد بشكل كبير من مئات الملايين من الدولارات من مساعدات الأمم المتحدة إلى سوريا، والتي يجد جزء كبير منها طريقه إلى ثروات الأقليات الحاكمة لسوريا.
بينما ينجح الروس في توجيه مساعدات الأمم المتحدة التي تمولها الولايات المتحدة إلى جيوب النظام السوري في دمشق، يبدو أنهم يحاولون فعل الشيء نفسه مع العملية السياسية السورية التي ترعاها الأمم المتحدة. ويبدو أن هدفهم الآن هو نقل عملية جنيف إلى مفاوضات شكلية تُجرى في دمشق تحت مظلة النظام السوري نفسه. فلا عجب أن بوتين يعتقد أنه يمكن أن يسخر من العمليات الدولية من خلال إجراء استفتاءات شكلية في دونباس ولوهانسك.
المشكلة ليست فقط أن سلبية أمريكا تخلق فرصاً ضائعة وتضر بمكانة أمريكا. إذ تؤدي السلبية الأمريكية إلى استياء عميق بين الملايين من الشباب السوري اليائسين والمحرومين الذين يشعرون أن أمريكا قد خذلتهم، وهذا سيشكل مناخًا مثاليًا لمزيد من التطرف والعنف والإرهاب في المستقبل.
كما أن السلبية تلحق ضرراً رهيباً بقدرة أمريكا على تكوين تحالفات هادفة في الشرق الأوسط. وبينما تستثمر الولايات المتحدة مئات المليارات من الدولارات لشراء وتقوية تحالفات جديدة ضد الدول الاستبدادية، ما تزال سياسات الولايات المتحدة تجاه سوريا تشكل فجوة كبيرة في هذه الاستراتيجية العالمية. كيف يمكن للولايات المتحدة أن تبني تحالفات دائمة ضد الاستبداد في حين أن دبلوماسيتها في سوريا ضعيفة تجاه الدول الاستبدادية العدوانية مثل روسيا وإيران وسوريا والجهات الفاعلة غير الحكومية مثل حزب الله؟ وإذا استمر هؤلاء اللاعبون في استهداف وتطويق البصمة العسكرية والدبلوماسية الأمريكية في المنطقة، فهل سنشهد انسحابًا ثانيًا من سوريا أو العراق أو أي مكان آخر مثل الذي شوهد في أفغانستان؟
وسط هذا الجمود السياسي المحفوف بالمخاطر في سوريا، قررت بعض الأصوات في واشنطن بطريقة ما أن الوقت مناسب لاقتراح انسحاب أمريكي كامل من سوريا. بالنسبة للسوريين، من غير المفهوم أن تجد الولايات المتحدة مصلحة في خلق فراغ في سوريا من شأنه أن يمكّن إيران وروسيا بشكل أكبر، خاصة في اللحظة التي تهاجم فيها تلك الأنظمة أوكرانيا معًا. ولا يمكن للسوريين أن يفهموا كيف تعتقد واشنطن أنها تستطيع الاستمرار في سياسة متماسكة أو ممارسة أي تأثير ذي مغزى في بقية الشرق الأوسط بعد التخلي عن سوريا.
وكما في الحالة الأوكرانية، حان الوقت للقيادة الأمريكية لتفعيل التحالف الدولي مرة أخرى، وتمكين عودة ثابتة إلى عملية جنيف السياسية، والضغط على موسكو (وعميلها النظام السوري) لوقف شن الحرب على الشعب السوري، وفرض تكلفة باهظة لا تقاوم إذا رفضت موسكو والنظام السوري القيام بذلك. في الوقت نفسه، يجب على الولايات المتحدة أن تستثمر أكثر بكثير في مهمات عدم التضارب وتحقيق الاستقرار بين المكونات العرقية المختلفة في غرب وشرق الفرات، مما يفتح الطريق أمام السلام المحلي المشترك والحكم الشرعي.
إن الحفاظ على النهج الحالي المتمثل في التناقضات التي لم تُحل، والتدخل الأمريكي الأدنى، والسلبية مع تسلل إيران وروسيا والفوز التدريجي للأرض السياسية في سوريا لن يؤدي إلا إلى فشل أمريكي، وهو فشل لن ينتهي عند حدود سوريا. فمن دون نهج أمريكي واضح وشامل، سيستمر المجتمع الدولي في الانجرار بالقوة إلى المسار الروسي، وعندها … هل سيكون علينا – مرة أخرى – أن ننصح السوريين بالذهاب إلى جحيم بوتين؟