العالم في حالة حركة لا تتوقف، وقد كان هكذا على مدار التاريخ لكن حركة هذا القرن تختلف عن غيرها ليس بحجمها فقط بل لأن الحدود والتأشيرات أصبحت أكثر تشددا ، والاسوار بين الشعوب أكثر علوا ، والاهم من هذين العاملين ان الاخطاء التي راكمتها الحكومات منذ الحرب العالمية الثانية تجمعت كلها في مرحلة أزمات اقتصادية طاحنة ، ،وحروب اقليمية في اكثر من قارة بما في ذلك أوروبا التي ظلت شبه هادئة في مرحلة الحرب الباردة منذ ١٩٤٥ إلى أن تحركت حربها الساخنة الاولى بالغزو الروسي لأوكرانيا .
ولا نحتاج لإعادة اختراع البارود في فهم هذه الازمة التي تتدحرج يوميا ككرة الثلج وتكبر في اكثر من قارة ، فغير التدهور الاقتصادي الذي يأتي كنتيجة طبيعية للاستبداد في دول العالم الثالث قامت في الشرق الاوسط وحده منذ مطلع هذا القرن ثلاثة حروب في العراق ثم سوريا واليمن ،واذا اضفت اليها افغانستان يمكن فهم الحجم الضخم للاجئين القادمين من سوريا والعراق وافغانستان بينما تكفلت دول الخليج بامتصاص الهجرة اليمنية لكن هل انعدمت الهجرة من هذه الدول قبل هذه الحروب .؟
قطعا لا ، فتلك البلاد طاردة لأهلها في السلم والحرب ، وهي في هذا مثل جميع الدول الدول التي تحكمها أنظمة ديكتاتورية تدمر الاقتصاد ، وتضيق على الحريات ، ولا توزع فرص العمل بحسب المؤهلات بل بحسب الولاء السياسي ففي سوريا مثلا كان هناك قطاعات كاملة لا توظف الا البعثيين من الحزب الحاكم ومنها اخطر سلك. في الدولة الموكل اليه تطبيق القوانين ، وهو القضاء .
وانطلاقا من تلك الخلفيات التي اعرفها جيدا ودفعت ثمنها تشردا وجدت نفسي يوم غرق قارب المهاجرين قبالة سواحل اليونان منتصف يونيو ٢٠٢٣ وغرق نتيجة لذلك في ساعات معدودة أكثر من ٥٠٠ مهاجر اكتب تغريده غاضبة على تويتر اشير فيها الى الأسباب التي تتجاهلها الحكومات الغربية في معالجتها لكثافة طلبات اللجوء ، والهجرة القادمة للقارة الأوروبية من افريقيا والشرق الاوسط .
يومها قلت في تلك التغريدة :
“أيها الغرب ” المتحضر” بدل أن يغرق الناس بالألوف ،والمئات في البحار ، وهم في طريقهم “لغزوك” تعال ادلك على طريقتين لوقف الهجرة ، وتسوية أزمة اللجوء ، وهي في معظمها من صنع يديك : ١ – اوقف دعم الدكتاتوريات ، فالناس تهرب من المستبدين والسفاحين ، ومن دولهم ، وستهرب منهم لآخر المعمورة لأنها لا تطيق البقاء حيث هم . ٢ – سلم مشروعات التنمية لجهات مستقلة ، ولا ترسل المساعدات الانسانية للحكومات كي لا تسرق ثلاثة أرباعها أحيانا ، اوكلها في بعض الاحيان”
وكان يجب ان اضيف الى الطريقتين المذكورتين آنفا طريقة ثالثة ، وهي اعادة النظر في تطبيقات حقوق الانسان في اوروبا والعالم ، والتعامل معها بجدية اكبر ما دامت متفقا عليها منذ الاعلان العالمي لحقوق الانسان الذي يفترض ان الامم المتحدة تسهر على تطبيقه لكن الذي جرى في السنوات الاخيرة انها فقدت بعض مصداقيتها مما فتح المجال لمعظم الدول ذات الانظمة الاستبدادية للتسلل الى مجلس حقوق الانسان في الامم المتحدة ، بحيث صارت احيانا تتحكم بقراراته ، وتعطل الكثير منها .
ويضاف الى هذا الخلل استغلال بعض الدول لحالات استثنائية لتفرض شروطا جديدة في اتفاقيات اللاجئين غير مورجودة في قوانين اللجوء الدولية الامر الذي يجعلها نظريا مساهمة في تكريس ظاهرة المتاجرة بالبشر التي تحرمها المواثيق الدولية ، ويعاقب عليها القانون الدولي .
لقد حاولت تركيا على سبيل المثال ان تحصل على شروط تفضيلية لمواطنيها في اتفاقية اللاجئين التي وقعتها مع الاتحاد الاوربي في ١٨ مارس ٢٠١٦ مقابل ستة مليارات من الدولارات تُسلم لها على دفعتين ، وطلبت آنذاك أن يتم اعفاء المواطنين الاتراك من تأشيرة الدخول الى الاتحاد الاوربي ، ولاحقا حين دب الخلاف بين الطرفين بسبب تأخير بعض الدفعات المالية امتنعت تركيا عن استعادة اللاجئين الذين وصلوا اوربا عن طريقها ،وقال نائب وزير الخارجية التركي -آنذاك- فاروق قايمقجي :”نحن لا نستعيد المهاجرين لأن الاتحاد الاوربي لا يفي بالتزاماته الواردة في الاتفاقية “وردا على الموقف التركي ولتثبت اوروبا براءتها من دخول اتفاقية فيها شبهة متاجرة بالبشر عبر وزراء داخليتها في بيان لهم في ٤ مارس ٢٠٢١عن رفضهم لاستخدام تركيا المهاجرين لأغراض سياسية .
وبغض النظر عن الخلافات اللاحقة فقد اثبتت تلك الاتفاقية فعاليتها كما اعترف جوزيب بوريل ، وانخفض عدد اللاجئين الى اوربا من ٨٥٦٠٠٠عام توقيع الاتفاقية التركية – الاوربية الى عشرة آلاف فقط عام ٢٠٢٠ ، ومع ذلك ما يزال كثيرون يرون في تلك الاتفاقية شكلا من اشكال التورط الرسمي في المتاجرة بالبشر .
ولم تكن اوربا وحدها التي لجأت لاتفاقيات غريبة عن القانون الدولي للحد من الهجرة واللجوء ، فقد قامت بريطانيا بعقد اتفاقية مع راوندا بحيث تدفع المملكة المتحدة لتلك الدولة الافريقية مئة مليون جنيه سنويا مقابل ان ترسل لها اللاجئين الذين يصلون اليها عن طريق القوارب البحرية ، ولا تقبل فرنسا استعادتهم ، ومعظم هؤلاء ليسوا من الشرق الاوسط ، ولا افغانستان بل من ألبانيا بحسب الاحصائيات الحكومية ، وقد استطاع محامون بريطانيون وقف ترحيل بعض اللاجئين الى راوندا عبر قضايا رفعوها للمحكمة العليا ، وما يزال الموضوع معلقا لكن الحكومة البريطانية تقول حتى الآن انها سترسل اول فوج من المبعدين الى راوندا مع نهاية العام الحالي .
ومقابل الحجة الحكومية التي تقول ان بريطانيا تتشدد لأنها تدفع ستة ملايين جنيه يوميا لإسكان اللاجئين الذين لم تبت بطلباتهم في فنادق وعددهم ١٣٧ الفا تقول منظمات حقوقية ان الخلل في القوانين ، فلو تم السماح لهؤلاء الذين ينتظرون البت بطلباتهم بالعمل لما ارتفعت التكلفة الى هذه الدرجة والحجة نفسها تُقال في اميركا حيث يستغرق البت بطلب اللجوء عشر سنوات احيانا ، وكذلك هذه هي ذات الحجة التي يستخدمها الذين يدافعون عن “الفصل ٤٢ “الذي سمح للولايات المتحدة أيام كورونا بترحيل قرابة ثلاثة ملايين لاجئ .
ولا احد يجرؤ على القول ان موضوع اللجوء غير شائك وغير معقد ، فهو كذلك بالتأكيد لكن الإصرار على معالجة المشكلة كقضية انسانية غير سياسية هو الذي يفاقم التعقيد الحاصل حاليا ،فالسياسة في قلب هذه القضية الشائكة سواء في دول الفساد والاستبداد التي ترسل افواج اللاجئين او في الدول الغربية التي تستقبل نسبة ضئيلة منهم لكنها في الوقت نفسه تدعم الانظمة التي تهجرهم ، وترسل لها المساعدات مع معرفتها بفسادها سواء في دول المنشأ ، او في دول العبور .
واحدث مثال على استمرار تجاهل العامل السياسي في قضية اللجوء ما تقوم به اوروبا حاليا من عقد اتفاقيات واغراء بالمليارات مع ديكتاتور تونس الذي سجن صحافيين وسياسيين ، واوقف العمل بمواد من الدستور وقام بمذبحة في المنظومة القضائية وفصل ٥٧ من القضاة ناهيك عن انتهاكات اخرى وقد تجاهلت اوروبا كل ذلك ، وزارت تونس منتصف يونيو الحالي رئيسة الاتحاد الاوربي مع رئيسي وزراء ايطاليا وهولندا، وفي جعبتهم حزمة من الاغراآت المالية لتكليف تونس بمنع قوارب الهجرة من التوجه لاوروبا .
وقد كان واضحا ان هناك اجماعا اوروبيا يؤيد هذا التوجه ،الملتبس ، والانتهازي في التعامل مع قضايا اللجوء ، وهذا ما اعلنت عنه رئيسة وزراء ايطاليا في لقائها بالرئيس الفرنسي في العشرين من يونيو٢٠٢٣ حيث اكدت ان الهجرة تحد جماعي يتطلب ردا اوربيا لسحق شبكة المتاجرين بالبشر ومنع من يدخل اوروبا عن طريق المهربين ، ومن المعلوم ان صاحبة هذه اللهجة الحماسية في التعامل مع قضية اللجوء هي ذاتها التي منعت سفن منظمات المجتمع المدني من انقاذ اللاجئين في البحر الابيض المتوسط بحجة ان ذلك يشوش على خطط الدول.
ان الذين يرفضون التعامل مع قضية الهجرة كأزمة سياسية بالدرجة الاولى يتناسون ان وراء كل ازمة هجرة مكثفة قرار سياسي ، ميانمار ، افغانستان ، العراق، البلقان ، وقد يكون المسبب ايضا خطأ سياسي فادح بحجم جريمة كما كان الحال في قرار اوباما الشهير بالتراجع عن خطوطه الحمر بعد قصف الغوطة الشرقية في سوريا بالسلاح الكيماوي عام ٢٠١٣ ، وكان ذلك خطأ فادحا ان لم نقل جريمة وهذا ما أكده الرئيس الفرنسي السابق اولاند ، وقد بدأت الهجرة المكثفة والنزوح السوري منذ ذلك التاريخ ، وبلغت ذروتها بعد الغزو الروسي ، وتدمير نصف مدينة حلب
لقد وقف اوباما يتفرج على الاسد وهو يقصف بالكيماوي ، وعلى بوتين وهو يغزو القرم ، ويضمها عام ٢٠١٤ دون ان يفعل شيئا لردعه عن الاستمرار في مسلسل الإجرام وهناك من يؤكد انه هو الذي حرضه ضمنا على غزو سوريا بحيث صار يمكن القول ان عدم ردع بوتين منذ ضم القرم وغزو سوريا هو الخطأ السياسي الفادح المؤسس لغزو اوكرانيا الذي تسبب في عامه الاول بلجوء قرابة اكثر من خمسة ملايين اوكراني باتجاه اوروبا ،وما تزال الهجرة اوكرانية مستمرة ، وتزداد مع إطالة أمد الحرب ، وفقدان الاساسيات التي يحتاجها الناس في زمن الحروب .
لقد كنت واضحا حين قلت اثناء غرق قارب اللاجئين امام ما كلوما اليونانية ان ازمة اللجوء سياسية بالدرجة الاولى قبل ان تكون اقتصادية ، وان الغرب يستطيع ان يحد منها حين يوقف دعمه المبطن ، واحيانا العلني للأنظمة الديكتاتورية في العالم ، ويتوقف عن ارسال مساعدات تسرقها انظمة الفساد والاستبداد قبل ان تصل لمن يستحقها ، واقرب مثال تاريخيا استيلاء عصابة الاسد التي تحكم سوريا على معظم المساعدات المرسلة للمتضررين من الزلزال الاخير .
لقد صار من المعروف ان هناك ميثاق جديد للهجرة سيوقعه قادة الاتحاد الاوربي في اجتماعهم اخر هذا الشهر ٢٨ – ٢٩ يونيو ٢٠٢٣ ، وهناك مشروع قانون لجوء جديد يجري التحضير له في البرلمان البريطاني كذلك اوقفت اميركا العمل بالفصل ٤٢ و يجري مشرعوها بعض التعديلات على قوانين الهجرة لكن كل هذا الحراك التشريعي والقانوني قد لا يحل هذه المشاكل المتراكمة ما لم يعي صناع القرار والمشرعون ان اللجوء القسري الذي تتسبب به الانظمة الديكتاتورية والحروب هو بالأساس مشكلة جوهرية واخطاء سياسية متراكمة يجب الاعتراف بها ،واصلاح اضرارها ، ثم يأتي بعدها النظر في طبيعة المساعدات ،وطبيعتها “مشاريع تنموية ام كاش “وتحديد من يتلقاها.
ويمكن ان يضاف الى ذلك كما اسلفت إعادة الجدية الى قضية حقوق الانسان التي اصبحت معظم الدول تنتهكها حين يتعلق الامر بالهجرة واللجوء ، وحين تعطى هذه العناصر الثلاث “عدم دعم المستبدين ، التحكم بالمساعدات ، إعادة المصداقية لشرعة حقوق الانسان” ما تستحقه من اهتمام السياسيين والمشرعين يمكن القول عندها إن أرقام اللجوء لا بد أن تنخفض مهما نشط المهربون والمتاجرون بالبشر في رفعها ، فما هم في النهاية الا ادوات اجرامية وجدت سوقا مربحا بفضل الأنظمة الديكتاتورية التي لا يمكن العيش الطبيعي في ظلها لأنها وفوق اجرمها ،تعذيبها وسجونها المكتظة بالأبرياء تحاول ان تتحكم بكل صغيرة وكبير في مصائر الشعوب.