خسر عملاء إيران في العراق ضمن الانتخابات البرلمانية التي جرت في العام الماضي، لكنهم انتصروا في معركة السيطرة على الحكومة العراقية الجديدة. ففي 27 أكتوبر، حصل رئيس الوزراء العراقي “محمد شياع السوداني” – وهو من كتلة الإطار التنسيقي المدعومة من إيران – على موافقة البرلمان على تشكيل حكومته الجديدة. و هي نتيجة لم يكن يتوقعها الكثيرون قبل عام، وذلك عندما وجه الناخبون ضربة للأحزاب والميليشيات المتحالفة مع إيران والتي تشكل كتلة السوداني البرلمانية. و بدلًا من ذلك حققت تلك الانتخابات انتصارًا ساحقًا للكتل التي وعدت بتنفيذ الإصلاحات ومقاومة النفوذ الإيراني على الحكومة العراقية. فكيف قلبت الأحزاب والميليشيات المدعومة من إيران التي خسرت الانتخابات مصيرها وشكلت حكومة بشروطها؟ تُظهر القصة كيفية ترسيخ النظام الإيراني للعراقيين الموالين له ضمن النظام السياسي العراقي، وكذلك كيف ستؤدي الحكومة الجديدة إلى مزيد من عدم الاستقرار والاضطراب في البلاد والمنطقة.
في أعقاب انتخابات العام الماضي، وجدت الكتلة المنتصرة لمقتدى الصدر نفسها بـ 73 مقعدًا في البرلمان المؤلف من 329 عضوًا. وبدمج التيار الصدري مع الكتلة السنية التي يتزعمها “محمد الحلبوسي” والكتلة الكردية بزعامة “مسعود البرزاني”، بدا أن الصدريين عازمون على تشكيل حكومة بأغلبية برلمانية مريحة. وأعلن تحالف الأغلبية البرلمانية الثلاثية هذا عزمه على تشكيل حكومة تقوم بالإصلاح وتطالب بنزع سلاح الميليشيات، وهي نفس الإجراءات التي طالب بها المحتجون العراقيون منذ أكتوبر 2019 فصاعدًا. وعلى الرغم من وجود شكوك كبيرة حول فساد الوزراء الصدريين في الحكومات السابقة والحذر من القرارات السياسية السطحية العاطفية للصدر، كان من الواضح أن نجاح هذا التحالف الثلاثي في تشكيل حكومة جديدة سيشكل تهديدًا خطيرًا للبنية السياسية المدعومة من الميليشيات والتي أنشأها النظام الإيراني في العراق.
في مواجهة مثل هذا التهديد الخطير، استجاب الإطار التنسيقي المدعوم من إيران باستخدام أسلوب “حزب الله” اللبناني القديم المتمثل في لعبة ” الثلث المعطل” في البرلمان، وعرقلة جميع المحاولات لاتخاذ الخطوة الدستورية الأولى لانتخاب رئيس. كان الإطار التنسيقي قادراً على ذلك لأنه استفاد من تواطؤ المحكمة العراقية الاتحادية العليا، وهي هيئة أثبتت أنها تحت الهيمنة الإيرانية بإصدارها أحكاماً قضائية مشكوكاً فيها لصالح الإطار التنسيقي. وسرعان ما أصبحت عملية تشكيل الحكومة في بغداد تبدو تمامًا مثل نظيرتها في بيروت، والتي تهيمن عليها إيران بنفس الطريقة تمامًا.
وبسبب إحباطهم من قدرة الإطار التنسيقي على إبطال نتائج الانتخابات لمدة ثمانية أشهر ، وحرمانهم من حق تشكيل الحكومة، اتخذ الصدريون الخطوة المتطرفة في يونيو بالاستقالة من البرلمان كليًا. وهنا يشير انسحاب التيار الصدري إلى قبولهم على مضض للسماح للإطار التنسيقي بتولي عملية تشكيل الحكومة بتوجيه من قائد فيلق القدس في الحرس الثوري الإيراني الفريق “إسماعيل قاآني”.
ومع خروج الصدريين من الطريق، وهزيمة التهديد بتشكيل حكومة ثلاثية مؤيدة للإصلاح، أصبح حلفاء طهران العراقيون الآن في وضع يسمح لهم بالاستيلاء على جميع أذرع الحكومة العراقية الجديدة. يدين رئيس الوزراء السوداني بترشيحه إلى نفوذ راعيه نوري المالكي ودعم ميليشيات إيران الحليفة. وفي ظل حكم السوداني، تم تسخير عملية تشكيل الحكومة بهدف تدمير أحلام المحتجين العراقيين، وذلك من خلال تسليم الشؤون الأمنية والعسكرية للعراق إلى كل من المالكي والميليشيات والحرس الثوري الإيراني. ولا شيء يمكن أن يمنع الحكومة الجديدة من القيام بذلك، حتى لو اضطر السوداني للعمل مع عدة وزارات شاغرة.
بماذا ينذر هذا الموقف؟ سيعني تشكيل هذه الحكومة الجديدة حدوث تداعيات خطيرة وانعداماً للأمن في جميع أنحاء البلاد، لأن السلطة الكاملة أصبحت بيد وكلاء إيران المزعزعين للاستقرار، وسيهيمن على الحكومة الجديدة فصيل المالكي، ومنظمة بدر، وعصائب أهل الحق، وكتائب حزب الله، وهم نفس الموالين لطهران الذين يحمّلهم العراقيون المسؤولية عن حملات القتل ضد العراقيين، وعن الفساد المتسبب بقلة الخدمات وتهالك البنية التحتية في البلاد. كما أن هذه هي الفصائل التي يحمّلها العراقيون مسؤولية تصعيد الهجمات المسلحة ضد كردستان، وخاصة أربيل حيث استخدموا في بعض هجماتهم صواريخ وطائرات مسيرة من داخل إيران بذريعة ملفقة لوجود إسرائيلي في العراق.
كفصيل متشدد مدعوم من إيران، نجح “الإطار التنسيقي” وميليشياته في الاستيلاء على السلطة. لكن كحكومة عاملة بالفعل، فهي محكوم عليها بالفشل. فنفس الشخصيات الفاسدة غير الفعالة التي فشلت في الحكومة من قبل ستقود حكومة أخرى هشة تهيمن عليها طهران وتفتقر إلى القدرة والنية على تحقيق الاستقرار في البلاد وتلبية مطالب الشعب. من شبه المؤكد أن هيمنة المفسدين المدعومين من إيران على الحكومة الجديدة ستؤدي إلى تمرد وثورة من قبل العراقيين بشكل عام، ثورة ستدفع مقتدى الصدر للتحرك بعد أن مكّن تقاعسه الإطار التنسيقي من السيطرة على السلطة.
هذه الاضطرابات القادمة في العراق ستكون هدية ثمينة لأسوأ الإرهابيين في المنطقة. فالوضع سيخلق فراغات أمنية ستبث الحياة في “تنظيم الدولة”، كما أنه سيخدم مصالح الحرس الثوري الإيراني الذي سيستفيد من الوضع غير المستقر لمواصلة استخدام العراق كقاعدة لحربه الإقليمية ضد المملكة العربية السعودية وغيرها، ويستفيد الحرس الثوري الإيراني بالفعل من التوتر الدبلوماسي بين واشنطن والرياض، ولن يؤدي تزايد عدم الاستقرار المدعوم من إيران في العراق إلا إلى تعميق هذا التوتر حيث يرى القادة الأمريكيون والسعوديون الوضع في العراق بشكل مختلف تمامًا.
أما بالنسبة للعراق على الساحة الإقليمية، فمع سيطرة حلفاء إيران على الحكومة في بغداد، يمكننا أن نتوقع أن يصبح العراق رصيدًا لاستراتيجية طهران في إلحاق الهزيمة باتفاقات “ابراهام”، ومعاقبة حلفاء أمريكا الإقليميين، وزيادة الخطر على وجود إسرائيل. سيكون المشهد بأكمله في العراق معبرًا عن وضع كان ينبغي ألا يحدث حيث كان المتظاهرون الذين نجحوا في الإطاحة بالحكومة في أكتوبر 2019 يأملون ألا يروه مرة أخرى.
اليوم، هناك العديد من رسائل التهنئة الدولية الموجهة إلى السوداني على تشكيل الحكومة، وتحسُّر واضح من واشنطن وآخرين ممن اعتقدوا أن الفراغ الحكومي الذي استمر لمدة عام كان أكبر مشكلة في العراق. لكن من المحتمل أن يصابوا بخيبة أمل قريبًا، فتشكيل حكومة الإطار التنسيقي الجديدة ليس نهاية عدم استقرار العراق، بل بداية مرحلة جديدة أسوأ من التي سبقتها.
مثال الألوسي عضو سابق في مجلس النواب العراقي.